
ينبغي ألا يفهم أن القانون ناصب لواء العداء اتجاه مهنة الطب، أو أن العاملين بالمهن الطبية هدفًا مفضلًا للمحامين. بل على العكس تمامًا؛ إذ إن وظيفة القانون هي تنظيم سلوك الأفراد في المجتمع، من خلال التشريعات، والمبادئ التي يرسيها القضاء، واللوائح التنظيمية التي تضعها الجهات الإدارية التي تنظم قطاع الصحة.
ويقوم القانون على سلامة الأفراد في المجتمع من خلال فرض واجب عام على الكافة، يتمثل في عدم الإخلال بالحيطة والحذر، فالإخلال بهذا الواجب قد يؤدي إلى وقوع ضرر لشخص آخر. فالقانون ينظم سلوك جميع الأفراد وجميع المهن، ومن هذه المهن مهنة الطب.
وكما هو معلوم فإن السلوك البشري يختلف من شخص لآخر، فقد يكون أحد الأشخاص مهملًا ومتهورًا وأرعنًا في جميع تصرفاته، ويكون أحدهم حريصًا أشد الحرص في سلوكه، وجميع المهن والوظائف تتضمن أفرادًا تتراوح تصرفاتهم ما بين الحرص والإهمال، ومن هذه المهن مهنة الطب، التي قد تتضمن الحريص والمهمل وما بينهما، بطبيعة الحال.
غير أن مهنة الطب لا تحتمل وجود الإهمال، ولا تطيقه، وتشجبه، وتدينه؛ لأنها تتعلق بحياة المريض، وحقه في سلامة جسده، من تصرفات هؤلاء المهملين.
وقد وضع القانون معيارًا عامًا لواجب الحرص يمثل الحد الأدنى الذي يجب ألا ينزل عنه معيار العناية، ويتمثل في معيار الشخص العادي، بيد أن ما يتوقع من الطبيب ليس كما يتوقع من الشخص العادي، لذا درج القضاء على قياس سلوك الطبيب بسلوك طبيب في مثل تخصصه ودرجته الوظيفية، فإن كان أخصائيًا يقاس بأخصائي مثله، وإن كان استشاريًا يقاس باستشاري في نفس تخصصه الطبي، فإذا تبين أن الاستشاري في مثل ظروفه سيسلك نفس السلوك الذي قام به الطبيب، فلا يعد مخطئًا، ويجب بذلك ألا يمثل ما ارتكبه الطبيب خروجًا عن الأصول المستقرة في علوم الطب.
ومع ذلك، فقد اعتبر القانون أن الطبيب لا يلتزم سوى ببذل عناية صادقة تقاس بالعناية يبذلها طبيب آخر في مثل تخصصه وظروفه الخارجية، ولو وقع ضرر للمريض، فإذا تبين أنه قد بذل العناية اللازمة، فلا يعد الطبيب مخطئًا في سلوكه، أما إذا أهمل ولم يبذل العناية اللازمة والتي تقاس بطبيب آخر في مستواه وتخصصه تثور مسؤوليته المدنية. وعلى ذلك فإن الطبيب لا يطالب بتحقيق نتيجة؛ إذ إنه لا يملك شفاء المريض، فهو لا يملك سوى العمل بالأسباب بمعالجته أو تخفيف ألمه، أما الشفاء فهو بيد الرحمن.
وذلك يعد تخفيفًا عن كاهل الأطباء في التزاماتهم بمناسبة أداء مهنتهم؛ حيث أن القانون يقر بأن الشفاء قد لا يكون ممكنًا في كل حين، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار ما يحيط عمل الطبيب من احتماليات وافتراضات تسببها أسرار إلهية تحيط بجسد الإنسان، إذ تعتمد المهنة في كثير من الأحيان على الشك والتخمين ويغيب عنها الجزم واليقين. وبالتالي فإن اعتبار التزام الطبيب ببذل عناية يوفر حماية وطمأنينة للطبيب في ممارسته لعمله، مما يرسي التوازن المنشود بين حق المريض في سلامة جسده وحق الطبيب في ممارسة عمله بطمأنينة وثقة، وهذا الهدف المرجو من تنظيم القانون للأعمال الطبية.
والله من وراء القصد.