كيف يحمي الطبيب نفسه من الدعاوى القضائية؟

لا أحد يستفيد من عزوف الطلبة عن دراسة الطب والتخصص فيه خوفًا من المطالبات القضائية والدعاوى الكيدية أو العبثية، ذلك أن مهنة الطب أحد أهم المهن التي لا يمكن أن تستغني عنها البشرية، وفي هذا الصدد يقول الإمام الشافعي “لا تسكن بلدًا لا يكون فيه عالم يفتيك عن دينك ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك”. والحقيقة أن كل مهني وكل شخص معرض للدعاوى الكيدية والعبثية؛ إذ إن مثل هذه الدعاوى لا ترتبط بمهنة الطب فحسب، بل ترتبط بكل شخص، إذ يفرض القانون على كل شخص واجب الحيطة والحذر في تصرفاته، وعدم الإضرار بالغير، فمن يرتكب خطأ سبب ضرر للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض وفق القانون المدني القطري.

وتاريخيًا عانت مهنة الطب من العقوبات التي طالت أصحابها، وقد كان الطبيب الذي يرتكب خطأ طبيًا مهددًا بالقتل؛ ما أدى إلى عزوف كبير عن هذه المهنة الخطيرة، حتى تطورت التشريعات مع تطور علم الطب وتخلصه من تعاليم السحر والشعوذة في تلك الأزمنة.

أما في الوقت الحالي، فلكي تقوم المسؤولية المدنية يجب تحقق ثلاثة أركان هي: الخطأ والضرر وعلاقة السببية، فإذا ارتكب أي فرد خطأ ترتب عليه وقوع ضرر لأحد الأشخاص، وكان الضرر قد وقع بسبب الخطأ الذي ارتكبه الفرد، يمكن للمتضرر المطالبة بتعويض يجبر ضرره وما يهمنا من هذه الأركان الثلاثة هو ركن الخطأ؛ إذ تطبق الأحكام ذاتها على أخطاء الأطباء، غير أن ما يميز الخطأ الطبي أنه يقع على جسد المريض الذي يثق به، كما أن الخطأ يتميز بطبيعته الفنية التي يصعب فهمها من غير المختصين؛ ما يجعل هذه المسؤولية تمتاز عن غيرها بالعديد من الخصائص المميزة.

ولكن كيف يحمي الطبيب نفسه من ارتكاب خطأ طبي؟

تكمن الإجابة فيما يسمى بالأصول الثابتة في علم الطب أو “الأصول المستقرة في علم الطب”، والتي يجب على كل طبيب اتباعها، فإذا خالفها وترتب على ذلك وقوع ضرر للمريض تثور مسؤوليته المدنية، ويمكن في هذه الحالة أن يقوم المتضرر بمطالبة قضائية.

والأصول المستقرة في علم الطب هي الأسس والتقاليد والمدارس الطبية والأصول والنظريات التي قام الطبيب بدراستها والتدرب عليها قبل أن يمارس مهنة الطب، والتي يتفق عليها غالبية الأطباء. وهذه الأصول والتقاليد المهنية هي أهم أمر يجب على كل طبيب مراعاته؛ حيث لا يتدخل القضاء ويفرض التزامات أو تقاليد أخرى غير التي يلزم بها الأطباء أنفسهم، بخلاف المهن الأخرى، لحساسية مهنة الطب، ولأهميتها في المجتمع.

بيد أن هذه التقاليد والأصول الطبية ليست ثابتة أو راسخة، بل تعد مهنة الطب أحد أسرع المهن تطورا، فلا يخفى على القاصي والداني حجم التقدم الطبي الهائل خلال القرن الماضي؛ لذا يتعين على الطبيب أن يواكب هذا التطور، ويحدّث معلوماته، ويطور أساليبه، فقد قضي بمساءلة أطباء نتيجة استعمال الطبيب لوسيلة قديمة عفا عليها الزمن في العلاج. وتحرص بعض التشريعات على مواكبة الطبيب لما يستجد في الطب، وتربط تجديد الترخيص الطبي بضمان مواكبته للجديد، من خلال حضوره لمؤتمرات، وكتابة أوراق بحثية ونشرها، وحضوره دورات تدريبية، وغيرها من أمور.

أما في حالة رفع دعوى على الطبيب فيمكن له نفي المسؤولية عنه، من خلال إثبات بذله العناية اللازمة والصادقة وفق الأصول المستقر عليها في علم الطب، فإذا نجح في إثبات ذلك تنتفي عنه المسؤولية. كما يمكن له كذلك إثبات وقوع الضرر نتيجة لسبب أجنبي؛ أي يثبت بأن الضرر قد وقع بسبب المريض المتضرر نفسه، أو يثبت وجود سبب آخر للضرر الذي وقع للمريض وليس بسبب الخطأ المنسوب إليه.

وبذلك يمكن للطبيب أن ينفي عن نفسه المسؤولية الطبية إذا نجح بإثبات السبب الأجنبي الذي ينفي العلاقة السببية بين الخطأ والضرر.

وفي جميع الأحوال، يجب على الطبيب بذل العناية اللازمة والصادقة في سبيل شفاء المريض، وذلك وفق الأصول المستقرة في علم الطب، وعدم الخروج على تلك الأصول إلا في حالة وجود سبب علمي يبرر ذلك، أو عندما يعتبر الخروج عليها طريقة مختلفة في العلاج تعتنقها مدرسة طبية مقبولة ومعترف بها في علوم الطب.

ومع ذلك، لا يمكن القول بوجود وسيلة معينة تحمي الأطباء من الدعاوى الطبية تمامًا، غير أن المطلوب منهم توخي الحذر والحرص في أعمالهم، وبذل الجهود الصادقة التي ترمي إلى علاج المريض في سبيل شفاءه، فهو لا يلتزم بشفاء المريض بل يلتزم ببذل الجهود الكافية وفق الأصول الطبية المتعارف عليها، والالتزام بالتقاليد والأخلاقيات الطبية، وبذلك يوفر القانون حماية للأطباء حيث يصعب في أغلب الأحوال إثبات الخطأ الذي يتمثل في واقعة سلبية تتمثل في عدم بذل العناية اللازمة من قبل الطبيب، وهو خطأ يتميز بكونه خطأ فني لا يلم به غير الأطباء.

والله من وراء القصد.

نُشر بواسطة Dr. Abdulla Al-Khaldi

دكتوراه في القانون الخاص، جامعة قطر. مهتم بالقراءة والكتابة ولدي منشورات محكّمة وغير محكّمة.

أضف تعليق