
من المعلوم أن التطوير المؤسسي يبدأ من الحصول على المعلومات اللازمة التي تتمثل في الإحصائيات والبيانات، والتي يتم تحليلها ودراستها فيما بعد، ثم إتاحتها للباحثين والأكاديميين لمزيد من البحث والدراسة. ومن البديهي أن حل أي مشكلة مجتمعية أو إدارية يبدأ من تحديدها ومعرفتها بدقة، ولا يمكن العمل على ذلك سوى من خلال البيانات والمعلومات والإحصائيات الدقيقة التي يتولاها الخبراء الإحصائيون والمحللون المتخصصون.
ومن هذه الإشكاليات التي لا يخلو منها أي مجتمع مسألة الأخطاء الطبية، التي لا يمكن دراستها ووضع الحلول لها إلا من خلال توفر البيانات والإحصائيات الدقيقة التي تلمس المشكلة الحقيقية.
ولعل القضاء شريك في تحسين جودة الطب من خلال تطبيقه للقوانين على المسائل المعروضة أمامه، ومن ثم وضع المبادئ التي تساعد في تطبيق القانون وتفسيره بالشكل الأمثل لمواجهة ظاهرة الأخطاء الطبية التي لا يخلو منها أي مجتمع؛ لذا يقع على عاتق وزارة الصحة العامة التنسيق مع القضاء لجمع البيانات الخاصة بما يقع من أخطاء طبية ووضع الإحصائيات النوعية ومن ثم تحليلها تحليلًا دقيقًا، كما يقع على عاتق القضاء العمل على الإحصائيات الخاصة بقضايا المسؤولية الطبية ودراستها ووضع حلول للإشكاليات القانونية المتعلقة بها، ويقع على عاتق كلٍ منهما إتاحة هذه الإحصائيات للباحثين والأكاديميين ليشاركوا في حل الإشكاليات المنبثقة من هذه المسائل، ولتكون توصياتهم أكثر دقة ومنفعة لتصحيح الأوضاع القائمة.
واعترافًا من المشرع بأهمية المعلومات والبيانات وضع تشريعًا خاصًا لهذه المسألة يتمثل في قانون الحق في الحصول على المعلومة المنظّم بالقانون رقم (9) لسنة 2022، وقد وضعت المادة (23) من هذا القانون عقوبة جنائية حماية لهذا الحق؛ إذ تنص على أنه “يُعاقب بالغرامة التي لا تزيد على (50,000) خمسين ألف ريال، كل مختص بتطبيق أحكام هذا القانون يرتكب أحد الأفعال التالية:
1 – حجب أو امتنع عمدًا ودون مقتض، عن تقديم المعلومات المطلوبة وفقًا لأحكام هذا القانون.
2 – قدم معلومات غير صحيحة مع علمه بذلك”.
وقد تم العمل بهذا القانون بتاريخ ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢ وكلف المشرع الجهات المخاطبة به بتوفيق أوضاعهم خلال سنة من العمل به، ما لم يصدر قرار من مجلس الوزراء بمد فترة توفيق الأوضاع.
ونأمل كباحثين ومتخصصين أكاديميين أن يسهم القانون في إتاحة البيانات والإحصائيات في جميع المجالات ومنها المجال الطبي، لكي نتمكن من وضع الإحصائيات الدقيقة التي تسهم بدورها في تطوير العمل المؤسسي بشكل عام وتحسين جودة الأعمال الطبية بشكل خاص.
ولا تنحصر الفائدة على الباحثين والأكاديميين فحسب، بل تستفيد من إتاحة هذه المعلومات جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وذلك في تطوير الأداء ورفع جودة الخدمات، وتقليل الأخطاء الإدارية والمهنية، فبدون هذه البيانات والإحصائيات لا يمكن لهذه الجهات تحديد المشاكل وتشخيصها ومن ثم وضع الحلول الملائمة لها.
ويدور نقاش قانوني حول مدى الحاجة إلى لجنة طبية متخصصة تحال إليها قضايا المسؤولية الطبية، لتبدي رأيها الفني قبل عرضها على القضاء، ويوجد مثل هذه اللجان في العديد من الدول المجاورة والبعيدة، كقانون المسؤولية الطبية الإماراتي وعدد من الولايات الأمريكية التي أنشأت مثل هذه اللجان لتقليل عدد الدعاوى بسبب الأخطاء الطبية.
وما نود التأكيد عليه أن هدف اللجنة عادة يتمثل في التقليل من أعداد دعاوى المسؤولية الطبية العبثية والكيدية، وأعداد الدعاوى في قطر ليست مثل أعدادها في ولاية إلينوي البتة. وبالتالي يتعين أولًا قبل إقرار وجود هذه اللجان من عدمه، الحصول على المعلومات اللازمة حول أعداد هذه الدعاوى، ومن ثم يمكن تقرير ما إذا كنا فعلًا بحاجة إلى هذه اللجنة أم لا!
فالحصول على المعلومة التي تتمثل في البيانات والإحصائيات هو ما يجعل التشريع يسير بالاتجاه الصحيح، ويكون أثره إيجابيًا ونتيجته في حل المشاكل القانونية أكثر فعالية، وبدون هذه المعلومات قد نقع في فخ التحيز ضد المرضى ولصالح الأطباء، بينما تتمثل وظيفة القانون في الموازنة بين حقوقهما. فإذا افترضنا أن أعداد الدعاوى بسيطة فإن اللجنة قد تقضي على هذه الأعداد مستقبلًا، بطول أمد التقاضي في دعاوى المسؤولية الطبية، وفقدان الثقة في الحصول على تعويض سريع يجبر الضرر، رغم أنها دعاوى حساسة لأنها تنطوي على ضرر جسدي قد يكون أصحابها متلهفين على تعويض يجبر ضررهم ويستعملونه في دفع نفقات العلاج.
والله من وراء القصد.